5 ـ الاستصحاب في التدريجيات \ استصحاب الزمان 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5124


التنبيه الخامس

 في جريان الاستصحاب في التدريجيات. ويقع الكلام فيه في مقامين، المقام الأوّل: في الزمان. والمقام الثاني: في غيره من التدريجيات كالحركة.

 أمّا المقام الأوّل: فتفصيل الكلام فيه أ نّا إذا قلنا بأنّ الزمان موجود واحد مستمر متقوّم بالانصرام، ولذا يعـبّر عنه بغير القار، فلا مانع من جريان

ــ[146]ــ

الاستصحاب فيه، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بالدقة العقلية فضلاً عن نظر العرف، فاذا شككنا في بقاء النهار مثلاً يجري استصحاب وجوده بلا إشكال.

 وإن قلنا بأنّ الزمان مركب من الآنات الصغيرة المنصرمة، نظير ما ذكره بعضهم من تركب الأجسام من الأجرام الصغيرة غير القابلة للتجزئة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضاً، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بنظر العرف. والمدار في جريان الاستصحاب على وحدة الموضوع بنظر العرف لا بالدقة العقلية.

 وهذا المسلك وإن كان باطلاً في نفسه، لأن بعض الأدلة الدالة على إبطال الجزء الذي لا يتجزأ يبطله أيضاً، إلاّ أنّ الالتزام به لا يمنع من جريان الاستصحاب في الزمان.

 هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار المترتبة على نفس الزمان، وأمّا الآثار المترتبة على عدم ضدّه كجواز الأكل والشرب في ليالي شهر رمضان المترتب على عدم طلوع الفجر، لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ا لاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ ا لاَْسْوَدِ...)(1) فلا اشكال في ترتبها باستصحاب عدم الضد، فاذا شك في طلوع الفجر فلا إشكال في جريان استصحاب عدمه حتى على القول بعدم جريانه في الزمان.

 ومن هذا القبيل ما ورد من الروايات الدالة على امتداد وقت صلاة الظهرين إلى غروب الشمس، وامتداد وقت صلاة العشاءين إلى انتصاف الليل، فاذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 187.

ــ[147]ــ

شك في الغروب أو انتصاف الليل يجري استصحاب العدم بلا إشكال. وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام، لأنّ الكلام إنّما هو في استصحاب نفس الزمان بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليه، وأمّا جريان استصحاب العدم عند الشك في الحدوث فلا يفرق الحال فيه بين الزمان وغيره.

 ثمّ إنّ ما ذكرناه من عدم المانع في جريان الاستصحاب في الزمان إنّما هو فيما إذا كان الزمان متمحضاً في الشرطية، بأن كان شرطاً للحكم الشرعي من التكليف أو الوضع. وأمّا إذا كان قيداً لمتعلق التكليف كما إذا كان ظرفاً للواجب مثلاً، كما إذا أمر المولى بالامساك الواقع في النهار، فاذا شك في بقاء النهار، ففي جريان الاستصحاب فيه إشكال، لأ نّه باستصحاب النهار لا يثبت وقوع الامساك في النهار إلاّ على القول بالأصل المثبت، فانّ وقوع الامساك في النهار لازم عقلي لبقاء النهار.

 ولذا عدل الشيخ(1) وتبعه المحقق النائيني(2) (قدس سره) عن جريان الاستصحاب في الزمان في مثله إلى جريانه في الحكم، بأن نقول بعد الشك في بقاء النهار: إنّ وجوب الامساك الواقع في النهار كان ثابتاً قبل هذا، فالآن كما كان.

 وهذا العدول مما لا يسمن ولا يفيد في دفع الاشكال، لأن استصحاب الحكم إن كان يمكن به إثبات أنّ الامساك واقع في النهار، فيمكن إثباته باستصحاب الزمان، لأ نّه باستصحابه يترتب الحكم وهو الوجوب، وباثباته

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 645.

(2) أجود التقريرات 4: 103 وما بعدها.

ــ[148]ــ

يثبت أنّ الامساك واقع في النهار على الفرض، فلا نحتاج إلى العدول إلى جريان الاستصحاب في الحكم، بل لا يصح جريانه فيه، لأنّ الشك فيه مسبب عن الشك في الزمان، وجريان الاستصحاب فيه يرفع الشك في الحكم، وإن كان استصحاب الحكم لا يمكن إثبات وقوع الامساك في النهار به، لكونه من الأصل المثبت، لأنّ بقاء النهار لازم عقلي لبقاء وجوب الامساك الواقع في النهار، بمعنى أنّ العقل يحكم بعد أمر المولى بوجوب الامساك الواقع في النهار بأنّ النهار باق لا محالة، فالعدول غير مفيد في دفع الاشكال.

 ومن هنا عدل صاحب الكفاية (قدس سره) عن جريان الاستصحاب في الزمان وعن جريانه في الحكم إلى جريانه في فعل المكلف المقيد بالزمان، بأن يقال بعد الشك في بقاء النهار: إنّ الامساك قبل هذا كان واقعاً في النهار والآن كما كان(1).

 وهذا الاستصحاب وإن كان جارياً في مثل الامساك، إلاّ أ نّه غير جار في جميع موارد الشك في الزمان، فانّه من أخّر صلاة الظهرين حتى شك في بقاء النهار، لا يمكنه إجراء الاستصحاب في الفعل بأن يقال: الصلاة قبل هذا كانت واقعة في النهار والآن كما كانت، إذ المفروض أنّ الصلاة لم تكن موجودةً إلى الآن، اللّهمّ إلاّ أن يتشبث بذيل الاستصحاب التعليقي، فيقال: لو اُتي بالصلاة قبل هذا لكانت واقعة في النهار، فالآن كما كانت. ولكنّ الاستصحاب التعليقي مع عدم صحته في نفسه مختص عند قائله بالأحكام، فلا يجري في الموضوعات كما يأتي التعرض له قريباً (2) إن شاء الله تعالى.

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 409.

(2) في ص 161 وما بعدها.

ــ[149]ــ

 فهذه الوجوه التي ذكرها هؤلاء الأعلام لا تفيد في دفع الاشكال، فلا بدّ من بيان وجه آخر وهو يحتاج إلى ذكر مقدمة: وهي أنّ الموضوع المركب على قسمين:

 فتارة يكون الموضوع مركباً من المعروض وعرضه كالماء الكر، فانّه موضوع للاعتصام وعدم الانفعال، فلا بدّ في ترتب الحكم على هذا الموضوع من إثبات العارض والمعروض بنحو مفاد كان الناقصة، إمّا بالوجدان أو بالتعبد، فاذا شككنا في بقاء كرية الماء لا يجدي جريان الاستصحاب في مفاد كان التامة، بأن يقال: الكرية كانت موجودة والآن كما كانت، فان موضوع عدم الانفعال ليس هو الماء ووجود الكرية ولو في غير الماء، بل الموضوع له كرية الماء وهي لا تثبت باستصحاب الكرية في مفاد كان التامة، إلاّ على القول بالأصل المثبت، فلا بدّ حينئذ من إجراء الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال: هذا الماء كان كراً فالآن كما كان.

 واُخرى يكون الموضوع مركباً بنحو الاجتماع في الوجود من دون أن يكون أحدهما وصفاً للآخر، كما إذا اُخذ الموضوع مركباً من جوهرين مثل زيد وعمرو، أو من عرضين ـ سواء كان أحدهما قائماً بموضوع والآخر قائماً بموضوع آخر كما في صـلاة الجماعة فانّ الموضوع لصحة الجماعة اجتماع ركوعين في زمان واحد أحدهما قائم بالإمام والآخر قائم بالمأموم، أو كانا قائمين بموضوع واحد كالاجتهاد والعدالة المأخوذين في موضوع جواز التقليد ـ أو مركباً من جوهر وعرض قائم بموضوع آخر، ففي جميع هذه الصور يكون الموضوع هو مجرد اجتماع الأمرين في الوجود ولا يعقل اتصاف أحدهما بالآخر، فلا بدّ في ترتب الحكم على مثل هذا الموضوع المركب من إحراز كلا الأمرين، إمّا بالوجدان أو بالتعبد، فاذا شك في أحدهما يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان

ــ[150]ــ

التامة بلا احتياج إلى جريانه في مفاد كان الناقصة، بل لا يصح جريانه فيه، لما ذكرناه من عدم معقولية اتصاف أحدهما بالآخر.

 ومن هذا القبيل الصلاة والطهارة، فانّ كلاً منهما فعل للمكلف وعرض من أعراضه، ولا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، والموضوع هو مجرد اجتماعهما في الوجود الخارجي، فاذا شك في بقاء الطهارة يكفي جريان الاستصحاب فيها بنحو مفاد كان التامة فيحرز الموضوع المركب من الصلاة والطهارة، أحدهما بالوجدان وهو الصلاة والآخر بالتعبد الشرعي وهو الطهارة.

 إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ اعتبار الزمان قيداً لشيء من هذا القبيل، فان معنى الامساك النهاري هو اجتماع الامساك مع النهار في الوجود، إذ النهار موجود من الموجودات الخارجية، والامساك عرض قائم بالمكلف، فلا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، فاذا شك في بقاء النهار يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان التامة، ولا يكون من الأصل المثبت في شيء. نعم، لو أردنا إثبات اتصاف الامساك بكونه نهارياً باستصحاب النهار بنحو مفاد كان التامة، كان من الأصل المثبت، لكنّه لا نحتاج إليه، بل لا معنى له على ما ذكرناه.

 نعم، قد يؤخذ في لسان الدليل الشرعي عنوان انتزاعي موضوعاً لحكم من الأحكام كالتقدم والتأخر والتقارن، فاذا شك في بقاء الزمان فباستصحابه لا يمكن إثبات هذا العنوان إلاّ على القول بالأصل المثبت، ولا اختصاص له باستصحاب الزمان، بل يجري في غيره أيضاً، فاذا كان الموضوع لارث الولد تأخر موته عن موت أبيه وعلمنا بموت والده في شهر رمضان مثلاً، وشككنا في أنّ موت الولد كان متأخراً عنه أم لا، فباستصحاب حياة الولد لا يمكن إثبات عنوان التأخر إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ــ[151]ــ

 فالمتحصل مما ذكرناه في المقام: صحة جريان الاستصحاب في الزمان مطلقاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net