7 ـ استصحاب عدم النسخ 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5446


ــ[175]ــ

التنبيه السابع

 في استصحاب عدم النسخ، والمعروف صحة جريان الاستصحاب عند الشك فيه، بل عدّه المحدث الاسترابادي(1) من الضروريات.

 ولكنّه قد استشكل فيه باشـكالين: الأوّل مشترك بين الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة المقدّسة، وبين الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة، فلو تم لكان مانعاً عن جريان الاستصحاب في المقامين. والثاني: مختص باستصحاب أحكام الشرائع السابقة.

 أمّا الاشكال الأوّل: فهو أ نّه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة كما مر مراراً، والمقام ليس كذلك، لتعدد الموضوع في القضيتين، فانّ من ثبت في حقه الحكم يقيناً قد انعدم، والمكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقّه من الأوّل لاحتمال نسخه، فالشك بالنسبة إليه شك في ثبوت التكليف لا في بقائه بعد العلم بثبوته ليكون مورداً للاستصحاب، فيكون إثبات الحكم له إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر. وهذا الاشكال يجري في أحكام هذه الشريعة أيضاً، فانّ من علم بوجوب صلاة الجمعة عليه هو الذي كان موجوداً في زمان الحضور، وأمّا المعدوم في زمان الحضور، فهو شاك في ثبوت وجوب صلاة الجمعة عليه من الأوّل.

 وقد أجاب الشيخ(2) (قدس سره) عن هذا الاشكال بجوابين:

 الأوّل: أ نّا نفرض الكلام في من أدرك الشريعتين أو أدرك الزمانين، فيثبت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفوائد المدنية: 143.

(2) فرائد الاُصول 2: 655 و 656 / التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب.

ــ[176]ــ

الحكم في حقـه بأصالة عدم النسخ، وفي حق غيره بقاعدة الاشتراك في التكليف.

 وفيه: أنّ إثبات الحكم بقاعدة الاشتراك إنّما هو مع عدم الاختلاف في الصفة المعبّر عنه بالوحدة الصنفية، فلا يجوز إثبات تكليف المسافر للحاضر وبالعكس بقاعدة الاشتراك. والحكم في المقام بما أ نّه ليس من الحكم الواقعي المستفاد من الأمارة بلا لحاظ اليقـين والشك، بل من الأحكام الظاهرية المستفادة من الاستصحاب على الفرض، فلا يمكن تسرية الحكم الثابت على من تيقن وشك إلى غيره، فانّ قاعدة الاشتراك وإن كانت جاريةً في الأحكام الظاهرية أيضاً، إلاّ أ نّها إنّما تجري مع حفظ الموضوع للحكم الظاهري، مثلاً إذا ثبت الحكم بالبراءة لأحد عند الشك في التكليف، يحكم لغيره أيضاً بالبراءة إذا شك في التكليف، لقاعدة الاشتراك، ولا يعقل إثبات الحكم بالبراءة لغير الشاك بقاعدة الاشتراك.

 ففي المقام مقتضى قاعدة الاشتراك ثبوت الحكم لكل من تيقن بالحكم ثمّ شك في بقائه، لا ثبوته لجميع المكلفين حتى من لم يكن متيقناً بالحكم وشاكاً في بقائه. فالحكم الثابت في حق من أدرك الشريعتين أو الزمانين لأجل الاستصحاب لا يثبت في حق غيره لقاعدة الاشتراك، لعدم كونه من مصاديق الموضوع، فانّ مفاد القاعدة عدم اختصاص الحكم بشخص دون شخص، فيعم كل من تيقن بالحكم فشك في بقائه، لا أنّ الحكم ثابت للجميع ولو لم يكن كذلك، بل كان شاكاً في حدوثه كما في المقام.

 الثاني: ما ذكره الشيخ (قدس سره)(1) وارتضاه غير واحد من المتأخرين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 655 و 656 التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب.

ــ[177]ــ

أيضاً، وهو أنّ توهم دخل خصوصية هؤلاء الأشخاص مبني على أن تكون الأحكام مجعولةً على نحو القضايا الخارجية، وليس الأمر كذلك، فانّ التحقيق أ نّها مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، فلا دخل لخصوصية الأفراد في ثبوت الحكم لها، بل الحكم ثابت للطبيعة أينما سرت من الأفراد الموجودة بالفعل وما يوجد بعد ذلك، فلو كان هذا الشخص موجوداً في زمان الشريعة السابقة، لكان الحكم ثابتاً في حقه بلا إشـكال، فليس القصـور في ثبوت الحكم من ناحية المقتضي، إنّما الكلام في احتمال الرافع وهو النسخ، فيرجع إلى أصالة عدم النسخ، ولا مانع منه من جهة اعتبار وحدة الموضوع في القضيتين، إذ الوحدة حاصلة بعد كون الموضوع هي الطبيعة لا الأفراد، هذا.

 وفيه: أنّ النسخ في الأحكام الشرعية إنّما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم، لأنّ النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه (سبحانه وتعالى) وقد ذكرنا غير مرة(1) أنّ الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول، فامّا أن يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد، وإمّا أن يجعله ممتداً إلى وقت معيّن، وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور. وكذا الكلام في أحكام الشـرائع السابقة، فانّ الشـك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته، فان احتمال البداء مستحيل في حقه تعالى، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب.

 وتوهم أنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين، مدفوع بأن جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية معناه عدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال محاضرات في اُصول الفقه 1: 534.

ــ[178]ــ

دخل خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم، لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة، فاذا شككنا في أنّ المحرّم هو الخمر مطلقاً، أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب، كان الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنب شكاً في ثبوت التكليف، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه.

 والمقام من هذا القبيل، فانّا نشك في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلفين أو هو مختص بمدركي زمان الحضور، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب حينئذ إلاّ على نحو الاستصحاب التعليقي، بأن يقال: لو كان هذا المكلف موجوداً في ذلك الزمان لكان هذا الحكم ثابتاً في حقه، والآن كما كان. لكنك قد عرفت(1) عدم حجية الاستصحاب التعليقي.

 فالتحقيق: أنّ هذا الاشكال لا دافع له، وأنّ استصحاب عدم النسخ مما لا أساس له، فان كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق يستفاد منه استمرار الحكم، فهو المتبع، وإلاّ فان دلّ دليلٌ من الخارج على استمرار الحكم كقوله (عليه السلام): «حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2) فيؤخذ به، وإلاّ فلا يمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ. فما ذكره المحدث الاسترابادي(3) من أنّ استصحاب عدم النسخ من الضروريات، إن كان مراده الاستصحاب المصطلح، فهو غير تام، وإن كان مراده نتيجة الاستصحاب ولو من جهة الأدلة الدالة على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه السادس.

(2) الكافي 1: 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

(3) الفوائد المدنية: 143.

ــ[179]ــ

الاستمرار، فهو خارج عن محل الكلام.

 وأمّا الاشكال الثاني على استصحاب عدم النسخ المختص باستصحاب أحكام الشرائع السابقة: فهو ما ذكره المحقق النائيني(1) (قدس سره) وحاصله: أنّ تبدل الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة إن كان بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة ـ بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقـة موافقاً لما في الشريعة السابقة لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاءً له ـ فيكون مثل إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع مجعولاً في كل شريعة مستقلاً، غاية الأمر أ نّها أحكام متماثلة، فعدم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ واضح، للقطع بارتفاع جميع أحكام الشريعة السابقة، فلا يبقى مجال للاستصحاب. نعم، يحتمل أن يكون المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للمجعول في الشريعة السابقة، كما يحتمل أن يكون مخالفاً له، وكيف كان لا يحتمل بقاء الحكم الأوّل.

 وإن كان تبدل الشريعة بمعنى نسخ بعض أحكامها لا جميعها، فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وإن كان محتملاً، إلاّ أ نّه يحتاج إلى الامضاء في الشريعة اللاحقة، ولا يمكن إثبات الامضاء باستصحاب عدم النسخ إلاّ على القول بالأصل المثبت.

 وفيه: أنّ نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة وإن كان مانعاً عن جريان استصحاب عدم النسخ إلاّ أنّ الالتزام به بلا موجب، فانّه لا داعي إلى جعل إباحة شرب الماء مثلاً في الشريعة اللاحقة مماثلةً للاباحة التي كانت في الشريعة السابقة. والنبوة ليست ملازمة للجعل، فانّ النبي هو المبلّغ للأحكام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 128، فوائد الاُصول 4: 480.

ــ[180]ــ

الإلهية.

 وأمّا ما ذكره من أنّ بقاء حكم الشريعة السابقة يحتاج إلى الامضاء في الشريعة اللاحقة، فهو صحيح، إلاّ أنّ نفس أدلة الاستصحاب كافية في إثبات الامضاء، وليس التمسك به من التمسك بالأصل المثبت، فانّ الأصل المثبت إنّما هو فيما إذا وقع التعبد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب.

 وفي المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الامضاء، فكما لو ورد دليل خاص على وجوب البناء على بقاء أحكام الشريعة السابقة إلاّ فيما علم النسخ فيه، يجب التعبد به فيحكم بالبقاء في غير ما علم نسخه، ويكون هذا الدليل الخاص دليلاً على الامضاء، فكذا في المقام فان أدلة الاستصحاب تدل على وجوب البناء على البقاء في كل متيقن شك في بقائه، سواء كان من أحكام الشريعة السابقة أو من أحكام هذه الشريعة المقدسة، أو من الموضوعات الخارجية، فلا إشكال في استصحاب عدم النسخ من هذه الجهة، والعمدة في منعه هو ما ذكرناه.

 وأمّا ما قيل في وجه المنع من أنّ العلم الاجمالي بنسخ كثير من الأحكام مانع عن التمسك باستصحاب عدم النسخ فهو مدفوع بأن محل الكلام إنّما هو بعد انحلال العلم الاجمالي بالظفر بعدّة من موارد النسخ. والاشكال من ناحية العلم الاجمالي غير مختص بالمقام، فقد استشكل به في موارد منها: العمل بالعام مع العلم الاجمالي بالتخصيص، ومنها: العمل بأصالة البراءة مع العلم الاجمالي بتكاليف كثيرة، ومنها: المقام. والجواب في الجميع هو ما ذكرناه من أنّ محل الكلام بعد الانحلال.

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net