ومن هنا وقع الكلام بينهم في أنّ الموضوع المعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هل هو مأخوذ من العقل، أو من الدليل الشرعي، أو من العرف. وليعلم أنّ الترديد بين الاُمور الثلاثة إنّما هو في الشبهات الحكمية فقط، إذ الموضوع في الشبهات الموضوعية هي الاُمور الجزئية الخارجية، وليس الدليل الشرعي متكفلاً ببيانها، فانّه من المعلوم أنّ الدليل الدال على حرمة الخمر مثلاً لايدل على أنّ هذا المائع خمر أو ليس بخمر، فلا يمكن أخذ الموضوع في الشبهات الموضوعية من الدليل الشرعي، فالترديد فيها بين العقل والعرف.
وذكر الشيخ(1) (قدس سره): أ نّه لو اقتصر بالدقة العقلية، لكان جريان الاستصحاب مختصاً بموارد الشك في الرافع.
وذكر صاحب الكفاية(2) (قدس سره): أ نّه لو اقتصر بالدقة العقلية لما بقي لجريان الاستصحاب مورد أصلاً، إذ لو لم يقع التغير في الموضوع بوجه من الوجوه، لم يقع الشك في الحكم، ومع التغير بانقلاب وجود إلى العدم أو العكس، لا يكون الموضوع باقياً بالدقة العقلية، فلا يجري الاستصحاب.
ويرد على ظاهر كلام الشيخ ـ مضافاً إلى ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) ـ أنّ الشيخ (قدس سره) قائل باختصاص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع، مع قطع النظر عن اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية، فلا يلزم محذور من الالتزام بوحدة الموضوع بالدقة العقلية، مع أ نّه ذكر هذا الكلام ـ أي لو اقتصر بالدقة العقلية لكان الاستصحاب مختصاً بموارد الشك في الرافع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 2: 693.
(2) كفاية الاُصول: 427.
ــ[281]ــ
استبعاداً (1) للقول بلزوم بقاء الموضوع بالدقة العقلية.
ولذا تصدى المحقق النائيني(2) (قدس سره) لتوجيه كلام الشيخ (قدس سره) في المقام، وحاصل ما ذكره: أنّ الرافع تارةً يطلق ويراد به ما يقابل المقتضي، فيراد به ما يمنع عن تأثير المقتضي لبقاء المقتضى بعد تاثيره في الحدوث، سواء كان وجودياً أو عدمياً، وهذا المعنى مراد الشيخ (قدس سره) في مقام التفصيل بين موارد الشك في المقتضي وموارد الشك في الرافع في حجية الاستصحاب، فاذا كان شيء باقياً بنفسه إلى الأبد ـ ما لم يقع شيء موجب لارتفاعه كالنجاسة والطهارة ـ وشككنا في بقائه، فلا محالة يكون الشك شكاً في وجود الرافع، فيجري الاستصحاب. وإذا شككنا في بقاء شيء لاحتمال انتهاء أمده ـ لا لاحتمال وجود رافع له ـ كخيار الغبن بعد الاطلاع والتأخير في الفسخ، فلا يجري الاستصحاب، لكونه من موارد الشك في المقتضي. واُخرى يطلق الرافع ويراد به ما يقابل المانع، فيراد به الأمر الوجودي الذي يوجب رفع شيء عن صفحة الوجود وإعدامه بعد حدوثه، والمانع عبارة عما يمنع عن حدوث الشيء.
وبعبارة اُخرى: المانع عبارة عمّا اُخذ عدمه في حدوث شيء، والرافع عبارة عما اُخذ عدمه في بقاء شيء بعد حدوثه، كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية. وهذا المعنى من الرافع مراد الشيخ (قدس سره) ها هنا، والنسبة بين الرافع بهذا المعنى المقابل للمانع والرافع المقابل للمقتضي هو العموم المطلق، لكون الرافع المقابل للمقتضي أعم من الوجودي والعدمي كما تقدّم، بخلاف الرافع المقابل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [ لا يظهر من عبارة الشيخ (قدس سره) انّه في صدد الاستبعاد فلاحظ ].
(2) أجود التقريرات 4: 184 ـ 185، فوائد الاُصول 4: 577 ـ 579.
ــ[282]ــ
للمانع، فانّه مختص بالوجودي كالمانع. هذا ملخص ما ذكره في توجيه كلام الشيخ (قدس سره).
ولكنّ الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أ نّه لو التزمنا بالدقة العقلية لما بقي مورد لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، إذ الرافع التكويني في الأحكام الشرعية غير معقول، فانّها من الاعتبارات التي وضعها ورفعها بيد الشارع، فاذا شك في بقاء حكم شرعي بعد العلم بحدوثه لطروء تغير في موضوعه، كان الشك راجعاً إلى اعتبار قيد في بقاء الحكم بجعل الشارع، وبعد البناء على أخذ الموضوع بالدقة العقلية، لا يجري الاستصحاب لا محالة.
وربّما يقال في المقام: إنّه لا بدّ من أخذ الموضوع من الدليل الشرعي، لأنّ العقل مما لا مسرح له في الأحكام الشرعية، وليس له التصرف في موضوعها، وإنّما يرجع إليه في الأحكام العقلية: من الاستحالة، والامكان وغيرهما.
وأمّا العرف فإن كان المراد من أخذ الموضوع منه أنّ موضوع الحكم الشرعي ما يفهمه العرف من الدليل الشرعي ولو بمعونة القرائن الداخلية أو الخارجية، فلا ينبغي ذكره مقابلاً لأخذ الموضوع من لسان الدليل، إذ المراد من الموضوع المأخوذ من الدليل ليس إلاّ ما يكون الدليل ظاهراً فيه بحسب فهم العرف ولو بمعونة القرائن. وإن كان المراد منه اتباع المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على الفرد الخارجي، فانّ العرف ـ بعد تشخيص الموضوع الكلي من لسان الدليل ـ ربما يتسامح في تطبيقه على الخارج، فلا ينبغي الارتياب في عدم جواز الاعتماد على هذه المسامحة العرفية، إذ العرف ليس مشرّعاً ولا يتبع نظره في قبال الدليل الشرعي، وإنّما يتبع في تعيين مراد الشارع، لأن خطابه وارد
ــ[283]ــ
على طبق متفاهم العرف، فالمتعين أخذ الموضوع من لسان الدليل الشرعي.
وهذا الذي ذكره وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه خارج عن محل الكلام ولا ربط له بالمقام، إذ الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك، من حيث إنّ جريان الاستصحاب والحكم بالبقاء متوقف على صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع واتحاده في القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها، فهل المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأوّل الدال على ثبوت الحكم ـ بأن كان جريان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه ـ أو الدليل الثاني الدال على الابقاء في ظرف الشك، فانّ الموضوع فيه النقض والمضي، فيكون جريان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض والمضي في نظر العرف بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأوّل.
فالمراد من أخذ الموضوع من العرف أنّ جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفاً بلا نظر إلى الدليل الأوّل، والمراد من أخذه من الدليل الشرعي هو الرجوع إلى الدليل الأوّل.
توضيح المقام: أنّ لسان الدليل الدال على ثبوت الحكم مختلف، فتارةً يقول المولى مثلاً: إنّ المسافر يقصّر. واُخرى يقول: إنّ المكلف إن سافر قصر، فمفاد هذين الكلامين وإن كان واحداً بحسب اللب، وهو وجوب القصر على المسافر، وقد ذكرنا غير مرة(1) أنّ الوصف المأخوذ في الموضوع يرجع إلى القضية الشرطية، وكذا القضية الشرطية ترجع إلى اعتبار قيد في الموضوع، إلاّ أنّ لسانهما مختلف بحسب مقام الاثبات، فانّ الموضوع في الأوّل هو عنوان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 4: 220 ـ 221.
ــ[284]ــ
المسافر، وفي الثاني عنوان المكلف مع كون السفر شرطاً لوجوب القصر عليه، فلو سافر أحد في أوّل الوقت ووصل إلى وطنه آخره، وشك في أنّ الواجب عليه هل هو القصر لكونه مسافراً في أوّل الوقت، أو التمام لكونه حاضراً في آخره.
فإن كان بيان وجوب القصر على المسافر بمثل الكلام الأوّل، لا يمكن جريان الاستصحاب فيه، إذ الموضوع لوجوب القصر هو المسافر، وهو حاضر حين الشك، فلا يكون موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها واحداً. وكذا لا يمكن الحكم بعدم وجوب القصر عليه تمسكاً بمفهوم الوصف، إذ الوصف الذي ربما قيل بحجيته هو الوصف المعتمد على الموصوف، كقولنا: المكلف المسافر يقصّر، بخلاف الوصف غير المعتمد كما في المقام، فانّه ليس له مفهوم اتفاقاً.
وإن كان بيان وجوب القصر بمثل الكلام الثاني، فلا مانع من جريان الاستصحاب، لكون الموضوع المأخوذ فيه هو المكلف، وهو باق في ظرف الشك، ولا يمكن التمسك بمفهوم الشرط وإن كان حجةً، إذ مفاده عدم وجوب القصر على من لم يسافر، ولا يستفاد منه عدم وجوب القصر في مفروض المثال، لاحتمال أن يكون السفر دخيلاً في حدوث وجوب القصر عليه فقط، فيكون القصر واجباً عليه بعد تحقق السفر ولو بعد انعدامه كما في المثال، وأن يكون دخيلاً في وجوب القصر حدوثاً وبقاءً، فيكون وجوب القصر دائراً مدار وجود السفر، فلا يجب عليه القصر في مفروض المثال، فتصل النوبة إلى استصحاب وجوب القصر، ولا مانع منه كما ذكرناه. هذا كله بناءً على أخذ الموضوع من الدليل الأوّل الدال على ثبوت الحكم، فلا يمكن جريان الاستصحاب إن كان من قبيل الكلام الأوّل، ولا مانع منه إن كان من قبيل الكلام الثاني.
ــ[285]ــ
وأمّا إن قلنا بأنّ المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الثاني الدال على الابقاء في ظرف الشك، فجريان الاستصحاب تابع لصدق نقض اليقين بالشك، ففي مورد يصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق عرفاً يجري الاستصحاب ويحكم بالبقاء وإن كان الدليل الدال على ثبوت الحكم من قبيل الكلام الأوّل، وفي مورد لا يصدق النقض المذكور عرفاً، لا يجري الاستصحاب وإن كان الدليل الدال على ثبوت الحكم من قبيل الكلام الثاني، وهذا هو الفارق بين كون الموضوع مأخوذاً من الدليل وبين كونه مأخوذاً من العرف.
وظهر بما ذكرناه ـ من تحقيق الفرق ـ أنّ الحق في المقام كون الموضوع مأخوذاً من العرف، بمعنى أنّ جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفاً بمقتضى دليله الدال على حرمة نقض اليقين بالشك، وقد ذكرنا أنّ الأوصاف مختلفة في نظر العرف، فمنها ما هو مقوّم للموضوع، فبعد انتفائه لا يصدق النقض، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه. ومنها ما هو غير مقوّم، فبانتفائه يصدق نقض اليقـين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه. ولذا ذكرنا في مباحث الفقه(1): أ نّه لو قال البائع: بعتك هذا الفرس فبان كونه شاةً، يكون البيع باطلاً، لكون الصورة النوعية مقوّمة للمبيع. ولو قال: بعتك هذا العبد الكاتب أو بشرط أن يكون كاتباً، فانكشف الخلاف فالبيع صحيح، لعدم كون الوصف مقوّماً للمبيع بنظر العرف، بل من أوصاف الكمال، فللمشتري الخيار. هذا تمام الكلام في اعتبار الوحدة في القضية المتيقنة والمشكوك فيها.
ولنختم الكلام في الاستصحاب بذكر اُمور:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقاهة 7: 66.
|