وفي مثله يظهر من كلام شيخنا الأنصاري(2) (قدس سره) جريان أصالة الصحة.
وللمناقشة فيه مجال، لعدم إحراز قيام السيرة فيه، وبمجرد الشك في قيام السيرة تسقط أصالة الصحة، لعدم الدليل عليها، فلو رأى أحد اعتبار تثليث التسبيحات في الصلاة، لا يجوز له الاقتداء بمن يرى عدم اعتباره فيها عملاً بأصالة الصحة. نعم، لو رأى اعتباره في خصوص حال العلم، يجوز له الاقتداء بمن لا يرى اعتباره أصلاً، لا لأصالة الصحة، بل لكون صلاته صحيحة حينئذ عند المأموم أيضاً، بلا احتياج إلى إعمال أصالة الصحة.
الجهة الخامسة: أنّ الشك في الصحة إمّا أن يكون من جهة الشك في قابلية الفاعل، وإمّا أن يكون من جهة الشك في قابلية المورد، وإمّا أن يكون من جهة
ــــــــــــ (2) فرائد الاُصول 2: 721.
ــ[394]ــ
احتمال عدم الشرط أو وجود المانع مع إحراز قابلية الفاعل والمورد.
والقدر المتيقن من موارد جريان أصالة الصحة هي الصورة الأخيرة. وأمّا الصورتان الاُوليان، فقد وقع الخلاف بينهم في جريان أصالة الصحة فيهما.
فذهب العلامة(1) والمحقق الثاني(2) إلى عدم جريانها فيهما، بدعوى أنّ الحمل على الصحة إنّما هو فيما إذا كان الشك في الصحة الفعلية بعد إحراز الصحة التأهلية، لا فيما إذا كان الشك في الصحة التأهلية، وتبعهما في ذلك جماعة.
واختار شيخنا الأنصاري(3) وتبعه جماعة اُخرى (قدس سرهم) جريان أصالة الصحة فيهما بدعوى قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس، مع الشك في كون البائع مالكاً أو غاصباً مثلاً، فالسيرة قائمة على الحمل على الصحة مع عدم إحراز قابلية الفاعل.
ثمّ إنّ قابلية الفاعل إمّا عرفية بمعنى اعتبارها في نظر العرف وأمضاه الشرع ككون البائع مميزاً، لعدم صحة بيع الصبي غير المميز عند العرف أيضاً. وإمّا شرعية بمعنى اعتبارها بتأسيس من الشارع فقط، ككون البائع بالغاً، فانّ اعتبار البلوغ إنّما هو من جهة الشرع، لعدم الفرق في نظر العرف بين العقد الواقع من البالغ والعقد الصادر من غيره، ولا سيما إذا كان التفاوت بينهما بمقدار لا يعتد به.
وكذا القابلية المعتبرة في المورد تارةً عرفية ككون المبيع مالاً بناءً على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قواعد الأحكام 2: 156، التذكرة 2: 87 السطر 7.
(2) جامع المقاصد 7: 307.
(3) فرائد الاُصول 2: 724.
ــ[395]ــ
اعتبار المالية في البيع العرفي كما يظهر من تعريف المصباح البيع بمبادلة مال بمال(1). واُخرى شرعية كعدم كون المبيع خمراً مثلاً فانّ الشارع ألغى مالية الخمر دون العرف.
ولا يصح حمل كلام العلامة والمحقق الثاني (قدس سرهما) على اعتبار إحراز القابلية العرفية فقط في الفاعل والمورد في جريان أصالة الصحة، وذلك لأ نّهما مثّلا للشك في قابلية الفاعل بالشك في البلوغ، والتزما بعدم جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عمل من جهة الشك في بلوغ العامل، ومن المعلوم أنّ اعتبار البلوغ شرعي على ما ذكرناه، فلابدّ في جريان أصالة الصحة عندهما من إحراز القابلية العرفية والشرعية في الفاعل والمورد.
والصحيح ما ذهبا إليه، لما ذكرناه سابقاً من أ نّه ليس لأصالة الصحة دليل لفظي يتمسك بعمومه أو إطلاقه، ولم يحرز قيام السيرة على ترتيب الآثار مع الشك في القابلية، بل المحرز قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار معه، فاذا باع زيد دار عمرو مع الاعتراف بكونها دار عمرو، وشك في أ نّه وكيل عن عمرو أم لا، فهل يقدم العقلاء على الشراء وإعطاء الثمن له والتصرف في الدار، كلاّ. وكذا إذا طلّق زيد زوجة عمرو مثلاً، فالسيرة جارية في أمثال هذه الموارد ـ مما شك فيه في القابلية ـ على عدم ترتيب الآثار، ولا أقل من الشك، وهو كاف في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة، لعدم الدليل عليها.
وأمّا ما ذكره الشيخ (قدس سره) من قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل، فهو وإن كان مسلّماً، إلاّ أ نّه من جهة قاعدة اليد، فانّه لولاها لما استقام للمسلمين
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصباح المنير: 69.
ــ[396]ــ
سوق، فلا ربط له بأصالة الصحة.
وإن شئت قلت: قابلية الفاعل في الموارد المذكورة محرزة بقاعدة اليد، لا أنّ أصالة الصحة جارية مع عدم إحراز القابلية، فالأمثلة المذكورة خارجة عن محل الكلام، والمثال المطابق لمحل الكلام هو الذي ذكرناه مما ليس مورداً لقاعدة اليد، وقد ذكرنا أنّ السيرة قائمة في مثله على عدم ترتيب الآثار، ولا أقل من الشك وهو كاف في المدعى، ولذا لو أنكر عمرو توكيل زيد في الطلاق في المثال الذي ذكرناه، فانجرّ الأمر إلى الترافع يحكم بفساد الطلاق، إلاّ أن تثبت الوكالة. ولو كانت أصالة الصحة جارية في أمثال المقام، لكان إثبات الفساد على عهدة الزوج، فيحكم بصحة الطلاق، إلاّ أن يثبت الزوج عدم التوكيل وهو كما ترى.
ثمّ إنّ الشيخ(قدس سره)(1) بعد ما التزم بجريان أصالة الصحة ولو مع الشك في القابلية ذكر أ نّه لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بعدم جريانها مع الشك في القابلية، لا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد من الموجب والقابل مع إحراز قابلية الآخر، إذ بعد إحراز قابلية الموجب مثلاً لو شك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل لاحتمال كونه غير بالغ مثلاً تجري أصالة الصحة في الايجاب، لكون قابلية الموجب محرزة على الفرض، فيحكم بكون الايجاب إيجاباً مؤثراً، وهو معنى صحة العقد.
وبالجملة: على فرض تسليم اعتبار إحراز القابلية يكفي إحراز قابلية أحد الطرفين، هذا ملخص كلامه (قدس سره).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 2: 725.
ــ[397]ــ
ولا يمكن المساعدة عليه بعد اعتبار إحراز القابلية كما هو المختار، فان صحة كل شيء بحسبه، وصحة الجزء عبارة عن كونه قابلاً للجزئية، ولا يثبت بها وجود الجزء الآخر ولا صحته، فصحة الايجاب عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه القبول لكان العقد المركب منهما مؤثراً قبالاً لفساده، فجريان أصالة الصحة في الايجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته.
وبالجملة: الحمل على الصحة ليس أولى من إحرازها بالوجدان. ولو أحرزنا صحة الايجاب بالوجدان وشككنا في وجود القبول أو في صحته، لا يمكن إثبات القبول ولا صحته بصحة الايجاب المحرزة بالوجدان، فكيف بالصحة المحرزة بالأصل، وهذا الذي ذكرناه مع وضوحه قد اعترف به الشيخ (قدس سره) بعد كلامه السابق بسطور، ونتعرض لتفصيله قريباً (1) إن شاء الله تعالى.
ومما يتفرع على اعتبار إحراز القابلية في جريان أصالة الصحة أ نّه لو شك في صحة بيع عين موقوفة للشك في كون المورد من الموارد التي قد استثنيت من عدم جواز بيع الوقف، لا تجري أصالة الصحة، إذ قابلية المحل غير محرزة بعد كون الوقف غير قابل للبيع، إلاّ في موارد مخصوصة.
تنبيه
ليس المراد من الفاعل الذي اعتبرنا قابليته هو العاقد، أي الذي يصدر منه انشاء العقد، بل المراد منه في البيع مثلاً هو مالك المبيع، فانّه هو الذي ينتقل منه المبيع وينتقل إليه الثمن، فلا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الجهة السادسة ص 398.
ــ[398]ــ
صحة البيع من جهة الشك في قابلية العاقد، لاحتمال كونه غير بالغ مثلاً مع إحراز قابلية المالك، ولا تجري أصالة الصحة في عكس هذه الصورة، وهو ما إذا شك في كون المالك قابلاً مع إحراز قابلية العاقد.
|