نفي الثالث بالمتعارضين - توهم دخول المتعارضين في باب التزاحم على القول بالنسبة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4014


 بقي الكلام في نفي الثالث بالمتعارضين بعد سقوطهما عن الحجية بالنسبة إلى المؤدى المطابقي للمعارضة، فاذا دل دليل على وجوب شيء والآخر على حرمته، فهل يصح الالتزام بحكم ثالث بعد تساقط الدليلين ولو للأصل، فيحكم بالاباحة لأصالة عدم الوجوب والحرمة أو لا، وليعلم أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا لم يعلم بكون أحد المتعارضين مطابقاً للواقع، وإلاّ فنفس هذا العلم كاف في نفي الثالث، ففي فرض احتمال مخالفة كليهما للواقع ذهب صاحب الكفاية والمحقق النائيني (قدس سرهما) إلى عدم إمكان الالتزام بالثالث لوجهين:

 الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب الكفاية(1) (قدس سره) وهو أنّ التعارض موجب للعلم بكذب أحدهما لا بعينه، فيكون أحدهما لا بعينه معلوم الكذب، والآخر كذلك محتمل الصدق والكذب، فيكون حجة، إذ موضوع الحجية الخبر المحتمل للصدق والكذب، والعلم بكذب أحدهما لايكون مانعاً عن حجية الآخر، فأحدهما لا بعينه حجة، وهو كاف في نفي الثالث، غاية الأمر أ نّه لا يمكن الأخذ بمدلوله المطابقي لعدم تعيينه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 439.

ــ[443]ــ

 وفيه: ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي(1) من أنّ أحدهما لا بعينه عنوان انتزاعي ليس له مصداق في الخارج، فلا معنى لكونه حجة، فانّه بعد عدم حجية خصوص الخبر الدال على الوجوب وعدم حجية خصوص الخبر الدال على الحرمة، لم يبق شيء يكون موضوعاً لدليل الحجية ونافياً للثالث، وقد مر تفصيل ذلك في بحث العلم الاجمالي.

 الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(2) (قدس سره) ومحصّله: أنّ اللازم وإن كان تابعاً للملزوم بحسب مقام الثبوت والاثبات، فانّ وجود الملزوم يستتبع وجود اللازم، وكل دليل يدل على ثبوت الملزوم يدل على ثبوت اللازم أيضاً، إلاّ أ نّه ليس تابعاً للملزوم في الحجية، بحيث يكون سقوط شيء عن الحجية في الملزوم موجباً لسقوطه عن الحجية في اللازم أيضاً.

 والوجه في ذلك: أنّ الإخبار عن الملزوم بحسب التحليل إخباران: أحدهما إخبار عن الملزوم. وثانيهما إخبار عن اللازم، ودليل الحجية شامل لكليهما، وبعد سقوط الإخبار عن الملزوم عن الحجية للمعارضة، لا وجه لرفع اليد عن الاخبار عن اللازم، لعدم المعارض له، لموافقة المتعارضين بالنسبة إلى اللازم، فنفي الثالث مستند إلى الخبرين.

 وهذا هو الفارق بين هذا الوجه والوجه الأوّل الذي ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) فانّ نفي الثالث على مسلكه مستند إلى أحدهما لا بعينه، هذا ملخص كلامه (قدس سره).

 وفيه: ما ذكرناه غير مرة من أنّ اللازم تابع للملزوم في الحجية أيضاً، كما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لم نجده في مظانه ].

(2) فوائد الاُصول 4: 755 ـ 757.

ــ[444]ــ

أ نّه تابع له بحسب مقام الثبوت والاثبات.

 وأمّا ما ذكره من الوجه لعدم سقوط حجية اللازم فنجيب عنه أوّلاً بالنقض. وثانياً بالحل.

 أمّا النقض فبموارد:

 منها: ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلاً، وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب، ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشيء آخر، كوقوع الدم عليه مثلاً، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة باعتبار أنّ الإخبار عن وقوع البول على الثوب إخبار عن نجاسته، لكونها لازمةً لوقوع البول عليه، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم للعلم بالخلاف، لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم، ولا نظن أن يلتزم به فقيه.

 ومنها: ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر، فقامت بينة على كونها لعمرو، وبينة اُخرى على كونها لبكر، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة، هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي، والحكم بعدم كون الدار لزيد، وأ نّها مجهول المالك؟

 ومنها: ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو، وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر، فلا حجية لأحد منهما في مدلوله المطابقي مع قطع النظر عن المعارضة، لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين، فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي، والحكم بعدم كون الدار لزيد، لكونهما موافقين فيه، فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟

 ومنها: ما لو أخبرت بيّنة على كون الدار لعمرو، واعترف عمرو بعدم

ــ[445]ــ

كونها له، فتسقط البينة عن الحجية، لكون الاقرار مقدّماً عليها، كما أ نّها مقدّمة على اليد، فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي للاعتراف، هل يمكن الأخذ بمدلولها الالتزامي، وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقه.

 وأمّا الحل: فهو أنّ الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم، إلاّ أ نّه ليس إخباراً عن اللازم بوجوده السعي، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له، فانّ الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأيّ سـبب كان، بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول عليه، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب، يعلم كذبها في الاخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأمّا النجاسة بسبب آخر، فهي وإن كانت محتملة، إلاّ أ نّها خارجة عن مفاد البينة رأساً. وكذا في المقام الخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الاباحة التي هي لازمة للوجوب لا على عدم الاباحة بقول مطلق، والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الاباحة اللازم للحرمة لا مطلق عدم الاباحة، فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة، يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضاً، وكذا الحال في سائر الأمثلة التي ذكرناها، فانّ إخبار البينة عن كون الدار لعمرو إخبار عن حصة من عدم كونها لزيد اللازمة لكونها لعمرو. وكذا الاخبار بكونها لبكر، فبعد تساقطهما في المدلول المطابقي تسقطان في المدلول الالتزامي أيضاً.

 فتحصّل مما حققناه في المقام: أ نّه بعد تساقط المتعارضين لا مانع من الالتزام بحكم ثالث، سواء كان مدركه الأصل أو عموم الدليل. هذا كله على القول بالطريقية في حجية الأمارات كما هو الصحيح والمشهور.

ــ[446]ــ

 وأمّا على القول بالسببية والموضوعية فذكر شيخنا الأنصاري(1) (قدس سره) وتبعه بعض المتأخرين أ نّه عليه يدخل التعارض في باب التزاحم، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً.

 أقول: قد يقال بحجية الأمارات من باب السببية بمعنى المصلحة السلوكية على ما التزم به بعض الإمامية في مقام العجز عن جواب استدلال ابن قبة لحرمة العمل بالظن بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال، وملخّصه على ما ذكره الشيخ (قدس سره) في بحث حجية الظن(2): أنّ تطبيق العمل على الأمارة ذو مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها للواقع، وحيث إنّ المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على طبق الأمارة، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السلوك قلةً وكثرة، فاذا فرض قيامها على وجوب صلاة الجمعة وعمل بها المكلف، فانكشف خلافها قبل خروج الوقت، وأنّ الواجب في يوم الجمعة هي صلاة الظهر، فلا بدّ حينئذ من إتيان صلاة الظهر، ولا يتدارك بالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إلاّ المصلحة الفائتة بالعمل بها، وهي مصلحة الصلاة في أوّل وقتها. وأمّا مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت، فلا يتدارك بها، لعدم فوتهما بسبب السلوك على طبق الأمارة، لتمكن المكلف من إتيانها في وقتها بعد انكشاف خلاف الأمارة. ولو فرض انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت، فيتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت دون مصلحة أصل الصلاة، لتمكن المكلف من تداركها بعد خروج الوقت بقضائها. نعم، لو لم ينكشف الخلاف أصلاً لا في الوقت ولا في خارجه، يتدارك بها مصلحة أصل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 761 ـ 762.

(2) فرائد الاُصول 1: 91.

ــ[447]ــ

الصلاة أيضاً الفائتة بسبب العمل بالأمارة، وهكذا.

 والقول بالسببية بهذا المعنى لا يوجب دخول التعارض في التزاحم، بل لا فرق بينه وبين القول بالطريقية من هذه الجهة، لأنّ المصلحة السلوكية تابعة لتطبيق العمل بمقتضى الحجة، فلا بدّ من إثبات الحجية أوّلاً، ليكون السلوك بطبقها ذا مصلحة، وقد ذكرنا أنّ دليل الحجية لا يشمل المتعارضين على ما تقدّم(1).

 وقد يقال بالسببية بمعنى التصويب المنسوب إلى الأشاعرة تارةً وإلى المعتزلة اُخرى على اختلاف بينهم في المعنى، فانّ المنسوب إلى الأشاعرة إنكار الحكم الواقعي رأساً، وأنّ ما تؤدي إليه الأمارة هو الواقع، وهو الذي اعترض عليه العلامة (قدس سره) (2) بأ نّه مستلزم للدور، إذ الواقع متوقف على قيام الأمارة على الفرض، وهو متوقف على الواقع بالضرورة، فانّه لو لم يكن في الواقع شيء فعمّا تكشف الأمارة وتحكي. وأمّا القول المنسوب إلى المعتزلة فهو أنّ الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل وإن كان موجوداً، إلاّ أ نّه يتبدل بقيام الأمارة على الخلاف، فرب واجب يتبدل إلى الحرمة، لقيام الأمارة على حرمته، ورب حرام يتبدل إلى الوجوب، لقيام الأمارة على وجوبه، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

 وتفصيل الكلام في المقام: أنّ القائل بالسببية بمعنى التصويب ـ بمعنى كون الحكم تابعاً لقيام الأمارة حدوثاً على ما يقوله الأشاعرة، أو بقاءً على ما يقوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 440 ـ 441.

(2) نهاية الوصول: 622 مبحث الاجتهاد.

ــ[448]ــ

المعتزلة ـ إمّا أن يقول بأن قيام الأمارة على شيء يوجب حدوث المصلحة في متعلق التكليف وهو عمل المكلف، وإمّا أن يقول بحدوث المصلحة في الالتزام بمؤدى الأمارة وهو عمل القلب، وإمّا أن يقول بحدوثه في فعل المولى، أي قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً يوجب حدوث المصلحة في إيجاب المولى ذلك الشيء.

 وعلى الأوّل إمّا أن يكون التعارض بين الدليلين بالتناقض، كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه أو بالتضاد. والتعارض بالتضاد إمّا أن يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء، والآخر على وجوب شيء آخر، ولا يكون لهما ثالث، كما إذا دل أحدهما على وجوب الحركة، والآخر على وجوب السكون، أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء، والآخر على وجوب شيء آخر ويكون لهما ثالث، كما إذا دل أحدهما على وجوب القيام والآخر على وجوب الجلوس، فانّ لهما ثالثاً كالاضطجاع مثلاً.

 أمّا إن كان التعارض بالتناقض، فدخوله في التزاحم مستحيل، إذ التزاحم عبارة عن كون المكلف عاجزاً في مقام الامتثال مع صحة كل واحد من التكليفين في مقام الجعل، واجتماع التكليفين في المقام محال في نفسه مع قطع النظر عن عجز المكلف، وذلك لأنّ المفروض كون قيام الأمارة على الوجوب موجباً لحدوث المصلحة الملزمة في الفعل، وقيام الأمارة على عدم الوجوب موجباً لعدم المصلحة الملزمة في الفعل، أو موجباً لزوال المصلحة الملزمة عن فعل المكلف، واجتماع المصلحة وعدمها في شيء واحد اجتماع نقيضين ومحال في نفسه، مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال.

ــ[449]ــ

 وظهر بما ذكرناه عدم صحة ما في الكفاية(1) من أنّ الدليل الدال على عدم الوجوب لايزاحم الدليل الدال على الوجوب، لأن اللا اقتضاء لايزاحم الاقتضاء، وذلك لأن اجتماع الاقتضاء واللا اقتضاء في نفسه محال، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة ليقال: إنّ اللا إقتضاء لايزاحم الاقتضاء، فما ذكره من أ نّه لو وقع التزاحم بين الاقتضاء واللا إقتضاء يقدّم الاقتضاء، لعدم صلاحية اللا إقتضاء لمزاحمة الاقتضاء وإن كان صحيحاً بحسب الكبرى، إلاّ أنّ الصغرى غير محققة، لعدم إمكان اجتماع الاقتضاء واللا إقتضاء ليقدّم أحدهما على الآخر.

 وأمّا إن كان التعارض بدلالة أحد الدليلين على وجوب شيء، والآخر على حرمته، فان قلنا بأنّ النهي عبارة عن الزجر عن الشيء المعبّر عنه في اللغة الفارسية بـ (جلوگيري كردن) كما هو الصحيح على ما حققناه في محله(2) من أنّ النهي عن الشيء هو الزجر عنه، كما أنّ الأمر بالشيء هو البعث والتحريك نحوه، فلا يمكن دخوله في التزاحم كالصورة السابقة، لأن قيام الأمارة على وجوب شيء يوجب حدوث المصلحة الملزمة فيه، وقيام الأمارة على حرمته يوجب حدوث المفسدة الملزمة فيه، ولا يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد بلا كسر وانكسار، فانّه من اجتماع الضدّين، ولا شبهة في استحالته، فلا يكون التعارض المذكور من باب التزاحم، لعدم صحة اجتماع التكليفين في نفسه قبل أن تصل النوبة إلى عجز المكلف عن الامتثال.

 وإن قلنا بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك ـ على ما هو المعروف بينهم ـ فيكون قيام الأمارة على وجوبه موجباً لحدوث المصلحة في فعله، وقيام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 440.

(2) لاحظ محاضرات في اُصول الفقه 3: 272 وما بعدها.

ــ[450]ــ

الأمارة على حرمته موجباً لحدوث المصلحة في تركه، واجتماع المصلحة في الفعل مع المصلحة في الترك وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ التكليف بالفعل والترك معاً مما لا يجتمعان، إذ التكليف بهما تعييناً تكليف بغير مقدور، وتخييراً طلب للحاصل، لعدم خلوّ المكلف عنهما، فتكليفه بأحدهما تخييراً لغو، فلا يكون من التزاحم في شيء.

 وكذا الحال إن كان التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب شيء آخر، مع عدم ثالث لهما، كما إذا دل أحدهما على وجوب الحركة، والآخر على وجوب السكون، فانّ التكليف بكل واحد من الحركة والسكون تعييناً تكليف بغير مقدور، وتخييراً طلب للحاصل، فلا يصح اجتماعهما في مقام الجعل، فلا يكون من باب التزاحم.

 وأمّا إن كان التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب شيء آخر وكان لهما ثالث، كما إذا دل أحدهما على وجوب القيام والآخر على وجوب الجلوس، فقد يتوهم كونه من التزاحم، بدعوى أنّ قيام الأمارة على وجوب القيام موجب لحدوث المصلحة في القيام، وقيام الأمارة على وجوب الجلوس موجب لحدوث المصلحة في الجلوس، والمكلف عاجز عن امتثال كليهما، وحيث إنّه قادر على ترك كليهما، فلا محذور في أن يكلفه الشارع بهما تخييراً حذراً من فوت كلتا المصلحتين.

 ولكنّ التحقيق أ نّه لا يمكن الالتزام بالتزاحم في هذه الصورة أيضاً، لأنّ الأمارة الدالة على وجوب القيام تدل على عدم وجوب الجلوس بالالتزام، وكذا الأمارة الدالة على وجوب الجلوس تدل على عدم وجوب القيام بالالتزام، لعدم صحة التكليف بالمتضادين في آن واحد، فثبوت أحدهما ينفي الآخر بالالتزام، لما بينهما من المضادة، فيكون المقام بعينه من قبيل تعارض دليلين

ــ[451]ــ

يدل أحدهما على وجوب صلاة الظهر، والآخر على وجوب صلاة الجمعة، مع العلم الاجمالي بعدم أحد التكليفين، فيرجع إلى التعارض بالتناقض، وقد تقدم استحالة دخول التعارض بالتناقض في التزاحم، فانّه بعد دلالة أحد الدليلين على وجوب القيام بالمطابقة ودلالة الآخر على عدم وجوبه بالالتزام، يلزم من قيام الأمارة الاُولى حدوث المصلحة الملزمة في القيام، ومن قيام الأمارة الثانية زوالها عنه، فيلزم اجتماع وجود المصلحة وعدمها في القيام، وهو اجتماع نقيضين، وهو محال في نفسه مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال. وكذا الحال في طرف الجلوس، ولا حاجة إلى التكرار. هذا كله على القول بأن قيام الأمارة يوجب حدوث المصلحة في فعل المكلف.

 وأمّا على القـول بأن قيامها يوجب حدوث المصلحة في الالتزام بمؤدى الأمارة وهو عمل القلب، فيمكن أن يتوهم دخول التعارض في التزاحم في جميع الصور المتقدمة، بدعوى أنّ قيام الأمارة على وجوب القيام مثلاً يوجب حدوث المصلحة في نفس الالتزام بوجوب القـيام، وكذا قيام الأمارة على وجوب الجلوس يوجب حدوث المصلحة في الالتزام بوجوبه، وبعد الالتزام بوجوب القيام وبوجوب الجلوس بمقتضى الأمارتين، يقع التزاحم في مقام الامتثال، لعدم قدرة المكلف عليهما في آن واحد.

 وحيث إنّ هذا التوهم مبني على وجوب الموافقة الالتزامية، فهو التزام بباطل في باطل، فانّ القول بالسببية باطل في نفسه، ومع الالتزام به لم يدل دليل على وجوب الالتزام لتكون له مصلحة. مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً من التكاذب بين الدليلين بحسب الدلالة الالتزامية، وأنّ الأمارة الدالة على وجوب القيام تدل على عدم وجوب الجلوس بالالتزام، والأمارة الدالة على وجوب الجلوس تدل على عدم وجوب القيام، وكيف يمكن الالتزام بوجوب القيام

ــ[452]ــ

وعدم وجوبه، وكذا في طرف الجلوس.

 وأمّا على القول بأن قيام الأمارة يوجب حدوث المصلحة في فعل المولى من الايجاب والتحريم، فيمكن تصوير التزاحم، فانّه إذا قامت أمارة على وجوب شيء وأمارة اُخرى على حرمته، فالأمارة الاُولى توجب حدوث المصلحة في الايجاب، والأمارة الثانية توجب حدوث المصلحة في التحريم، فتقع المزاحمة بين المصلحة في جعل الوجوب والمصلحة في جعل الحرمة، إلاّ أنّ هذا التزاحم من التزاحم في الملاك الذي ذكرنا (1) أ نّه خارج عن محل الكلام، وليس للمكلف دخل فيه بل أمره بيد المولى. وحيث إنّه لا أهمية لإحدى المصلحتين على الاُخرى على الفرض، إذ الموجب لحدوث المصلحة قيام الأمارة، وهي قائمة في الطرفين بلا تفاوت في البين، فللمولى أن يجعل الوجوب وأن يجعل الحرمة. وأمّا بالنسبة إلى المكلف، فنتيجة هذا التزاحم هي نتيجة التعارض من رفع اليد عن المتعارضين والرجوع إلى الاُصول العملية، إذ بعد تنافي الأمارتين لا علم لنا بأنّ المولى جعل الوجوب أو التحريم، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي، ففيما إذا قامت أمارة على الوجوب واُخرى على الحرمة، يدور الأمر بين محذورين ويحكم العقل في مثله بالتخيير. وأمّا إذا قامت أمارة على الوجوب واُخرى على عدمه، فيكون مورداً لأصالة البراءة.

 ولب المقال في المقام: أنّ رجوع التعارض إلى التزاحم ـ على القول بالسببية ـ مما لا أساس له على جميع التقادير المتقدمة ، إذ منشؤه توهم أنّ القائل بالسببية قائل بأن قيام الأمارة موجب لحدوث المصلحة ولو كانت الأمارة غير معتبرة، وليس الأمر كذلك، إذ من المعلوم أنّ القائل بالسببية قائل بأن قيام الحجة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عند بيان الفرق بين التعارض والتزاحم ص 426.

ــ[453]ــ

موجب لحدوث المصلحة، وحينئذ يكون حدوث المصلحة في الفعل أو الالتزام أو فعل المولى في رتبة متأخرة عن حجية الأمارة، وقد ذكرنا أنّ دليل الحجية غير شامل للمتنافيين على ما تقدّم(1)، فلم يبق مجال لتوهم رجوع التعارض إلى التزاحم على القول بالسببية.

 فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: أنّ الأصل في التعارض هو التساقط، بلا فرق بين القول بالطريقية والقول بالسببية.

 ثمّ إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ التعارض هو تنافي مدلولي دليلين بحيث لا يكون أحدهما قرينة عرفية على الآخر بنحو الحكومة أو الورود أو التخصيص أو غيرها من أنحاء القرينية العرفية، ففي كل مورد يكون أحدهما قرينة على الآخر بحسب متفاهم العرف فهو خارج عن التعارض. ولا ضابطة لذلك بل يختلف باختلاف المقامات والخصوصيات المحتفة بالكلام: من القرائن الحالية والمقالية، إلاّ أ نّهم ذكروا من ذلك اُموراً نتعرض لها تحقيقاً للحال وتوضيحاً للمقام.
ـــــــــــــــ

(1) في ص 440 ـ 441.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net