إمكان التجزي ووقوعه - ما يتوقف عليه الاجتهاد من العلوم - التخطئة والتصويب 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5783


ــ[529]ــ
 

الكلام في التجزّي

 ويقع البحث فيه في مقامين: الأوّل: في إمكانه. الثاني: في حكمه.

 أمّا المقام الأوّل: فقد ذهب جماعة إلى استحالته، بدعوى أنّ ملكة الاستنباط أمر بسيط وحداني، والبسيط لا يتجزى، فان وجدت فهو الاجتهاد المطلق، وإلاّ فلا اجتهاد أصلاً. وكذا الأمر لو كان الاجتهاد عبارة عن نفس الاستنباط لا ملكته، فانّه أيضاً بسيط غير قابل للتبعيض. وذهب الأكثر إلى إمكانه، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه كصاحب الكفاية (قدس سره) (1) بدعوى أنّ الوصول إلى المرتبة العالية ـ وهو الاجتهاد المطلق ـ يتوقف على طي المراتب النازلة على التدريج، لبطلان الطفرة.

 والتحقيق ما عليه الأكثر من إمكانه لا الامتناع ولا الوجوب، فانّ المراد من التجزي هو التبعيض في أفراد الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل، إذ كما أنّ كل حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الاُخر في موارد اُخر، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة، وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها وهكذا. وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر، وحيث إنّ مدارك الأحكام مختلفة جداً، فربّ حكم يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه، وربّ حكم لا يبتني استنباطه إلاّ على مقدمة واحدة فيسهل استنباطه، ومع ذلك كيف يمكن أن يقال: إنّ القدرة على استنباط حكم واحد لا تكون إلاّ مع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 467.

ــ[530]ــ

 وبالجملة: حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الامكان ولا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره. ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام، واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل، فانّ الثاني هو الذي تنافيه البساطة، ولا دخل له بالمقام.

 وظهر بما ذكرناه فساد ما في الكفاية من وجوب التجزي، لعدم إمكان حصول الاجتهاد المطلق دفعة لبطلان الطفرة، وذلك لأنّ الأفراد كلها في عرض واحد، ولا يكون بعضها مقدّمة لبعض آخر حتى يتوقف الوصول إلى المرتبة العالية على طي المراتب النازلة، فلا مانع عقلاً من حصوله دفعة وبلا تدريج ـ ولو بنحو الاعجاز من نبي أو إمام (عليه السلام) ـ إلاّ أن يكون مراده الاستحالة العادية لا العقلية، فانّه لا يمكن عادةً حصول الاجتهاد المطلق دفعة، بل هو متوقف على التدرج شيئاً فشيئاً، لا أنّ حصول الجميع دفعة من المحالات العقلية كاجتماع الضدين مثلاً، فإن كان مراده هذا فهو صحيح، لكنّه خلاف ظاهر كلامه من الاستدلال بلزوم الطفرة، فانّ ظاهره الاستحالة العقلية.

 وأمّا المقام الثاني: وهو البحث عن حكمه، فيقع الكلام تارةً في جواز عمله بفتواه في الموارد التي استنبط الحكم فيها. واُخرى في جواز رجوع الغير إليه في الموارد المذكورة. وثالثةً في نفوذ قضائه وحكمه في المرافعات.

 فنقول: أمّا جواز عمله بفتواه، فهو مما لاينبغي الاشكال فيه، فانّه بالاضافة إلى ما استنبطه من الحكم عالم فلا تشمله أدلة جواز التقليد، فان قوله تعالى: (فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(1) والسيرة العقلائية وغيرهما إنّما يدلان على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع العالم إلى مثله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النحل 16: 43.

ــ[531]ــ

 وأمّا رجوع الغير إليه، فالظاهر عدم جوازه، والوجه فيه: أنّ السيرة العقلائية وإن كانت تقتضي جواز الرجوع إليه، فانّ العقلاء لا يفرّقون في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من يكون له خبرة في غير الأمر المرجوع فيه، ومن لا يكون له خبرة فيه، فالطبيب الحاذق في مرض العين يرجع إليه في معالجة مرض العين وإن لم يكن له خبرة في أمراض القلب والمعدة وأمثالهما، ولكن مجرد قيام السيرة لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء من الشارع، وقد ذكرنا أنّ الموضوع في أدلة الامضاء إنّما هو العارف بالأحكام والفقيه وأهل الذكر، ومن الظاهر عدم صدق هذه العناوين إلاّ على العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها، فلا تشمل المتجزي. وتوهم أن قوله (عليه السلام): مَن عرف شيئاً من قضايانا... شامل للمتجزي، مندفع بما ذكرناه سابقاً (1) فلا نعيد.

 ومن هنا يظهر الوجه في عدم نفوذ قضائه أيضاً.
 

الكلام فيما يتوقف عليه الاجتهاد

 وهو معرفة العلوم العربية: من النحو والصرف واللغة في الجملة، أي بمقدار يتوقف عليه فهم المعنى من الكتاب والسنّة. ومعرفة الزائد على ذلك كبعض المباحث الدقيقة الصرفية أو النحوية وكيفية الاعلال مجرد فضل، ولا يعتبر في تحقق الاجتهاد.

 وأمّا علم الرجال، فان قلنا بأنّ الملاك في جـواز العمل بالرواية هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 524.

ــ[532]ــ

الاطمئنان بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) وأ نّه يحصل بعمل المشهور بها وإن كانت رواتها غير موثوق بهم، وأنّ إعراضهم عنها يوجب الاطمئنان بعدم صدورها وإن كانت رواتها موثوقاً بهم، فتقلّ الحاجة إلى علم الرجال، إذ بناءً عليه يكون الملاك في جواز العمل بالرواية وعدمه هو عمل المشهور بها وعدمه، فانّ عمل الأصحاب بالرواية وعدمه يظهر من نفس كتب الفقه بلا حاجة إلى علم الرجال. نعم، في الموارد التي لم يحرز عمل المشهور بالرواية ولا إعراضهم عنها، كما إذا كانت المسألة غير معنونة في كلامهم، لا بدّ في العمل بها من معرفة رواة الحديث ليحصل الاطمئنان بوثاقتهم.

 وأمّا إن قلنا بأنّ الملاك في جواز العمل بالرواية إنّما هو ثبوت وثاقة رواتها، وأ نّه لا عبرة بعمل المشهور بها أو إعراضهم عنها، فحينئذ تكثر الحاجة إلى علم الرجال واستعلام حال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها، وقد بيّنا صحة القول الثاني عند التكلم في حجية أخبار الآحاد.

 وأمّا علم الاُصول فتوقف الاستنباط عليه أوضح من أن يخفى، ضرورة أ نّه لا بدّ في استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة من معرفة المباحث الاُصولية: من بحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، ومباحث الحجج والاُصول العقلية والشرعية والتعادل والترجيح، وقد أوضحنا ذلك كله عند التعرض لتعريف علم الاُصول، ولا بدّ من تنقيح كل ذلك بالنظر والاجتهاد لا بالتقليد، وإلاّ لا يصدق عليه عنوان العارف والفقيه.

ــ[533]ــ
 

الكلام في التخطئة والتصويب

 لا خلاف في وقوع الخطأ في الأحكام العقلية، وأنّ من حكم بما يدعي استقلال عقله به قد يصيب الواقع وقد لا يصيبه، سواء كان من المسائل العقلية المحضة التي لا مساس لها بالأحكام الشرعية، كمسألة إعادة المعدوم التي ذهب جماعة إلى إمكانها واُخرى إلى امتناعها، أو كان من المسائل العقلية التي لها دخل في الأحكام الشرعية، كمسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه، فانّ التصويب في الأحكام العقلية مطلقاً مستحيل، بداهة أنّ القائل بامكان إعادة المعدوم والقائل بامتناعه، وكذا القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي والقائل بامتناعه، لو كانا مصيبين للواقع، للزم كون شيء واحد ممكناً وممتنعاً.

 وأمّا الأحكام الشرعية فقد نسب القول بالتصويب فيها إلى العامة، بمعنى أنّ لله سبحانه أحكاماً عديدة في موضوع واحد بحسب اختلاف آراء المجتهدين، فكل حكم أدى إليه نظر المجتهد ورأيه، فهو الحكم الواقعي في حقه، ويكفي في بطلان هذا القول ـ مضافاً إلى الاجماع والأخبار الكثيرة(1) الدالة على أنّ لله حكماً في كل واقعة يشترك فيه العالم والجاهل ـ نفس إطلاقات أدلة الأحكام، فان مقتضى إطلاق ما يدل على وجوب شيء أو حرمته ثبوته في حق من قامت عنده الأمارة على الخلاف أيضاً.

 وتوهم أ نّه بعد العلم بحجية ما دل على خلاف الحكم الواقعي من الطرق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ لعلّه (قدس سره) يشير إلى أخبار الاحتياط وأخبار وجوب التعلم وجوباً طريقياً ونحو ذلك مما يدل على الاشتراك بالالتزام كما في المحاضرات 2: 87 ].

ــ[534]ــ

والأمارات لا بدّ من رفع اليد عن تلك الاطلاقات، وإلاّ لزم اجتماع الضدين أو المثلين، وتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة، مدفوع بما ذكرناه في بحث حجية الظن(1) من أنّ المحاذير التي ذكرت لاثبات التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري لا يتم شيء منها، فراجع.

 نعم، لا يتصور الخطأ في الأحكام الظاهرية، فلا بدّ من الالتزام بالتصويب فيها، إذ كل مجتهد عالم بوظيفته الفعلية، وجهله إنّما هو بالاضافة إلى الحكم الواقعي، ولذا أخذوا العلم في تعريف الفقه، فعرّفوه بأ نّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

 إن قلت: ليس الأمر في الأحكام الظاهرية إلاّ كما في الأحكام الواقعية، ولا تكون آراء المجتهدين كلها في الحكم الظاهري مصيبة. ألا ترى أ نّه لو بنى أحد المجتهدين في دوران الأمر بين المحذورين على أنّ الحكم الظاهري هو الأخذ بجانب الحرمة، اعتماداً على ما يظهر من بعض الموارد من تقديم الشارع جانب الحرمة على جانب الوجوب، وبنى الآخر على جريان البراءة الشرعية في كلا طرفي الوجوب والحرمة، والتزم فيه بالتخيير، فانّه لايكون المصيب إلاّ أحدهما. وكذا لو بنى أحدهما على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي وتمسك الآخر في تلك الموارد بغير الاستصحاب كالبراءة الشرعية، فانّ الحكم الظاهري في الموارد المذكورة في حق كليهما إمّا مفاد الاستصحاب وإمّا مفاد البراءة.

 نعم، لو كان موضوع الحكم الظاهري في حق أحد المجتهدين فعلياً دون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 105 وما بعدها.

ــ[535]ــ

الآخر، فالأمر كما ذكر، فانّ الوظيفة الفعلية المقررة في الشرع في حق كل منهما غير ما في حق الآخر. وأمّا فيما إذا كان موضوعه فعلياً في حق كل منهما، ولكن لم ير أحدهما ثبوت الحكم له كما ذكرناه في المثالين، فلا محالة يكون أحدهما مخطئاً.

 قلت: ليس المراد بالتصويب في الأحكام الظاهرية أ نّه لا يمكن الخطأ من المجتهد بالاضافة إلى الحكم المجعول في حق الشاك، فانّه كالحكم المجعول على ذوات الأفعال قد يصل إليه المجتهد وقد لا يصل، بل المراد به أنّ اختلاف المجتهدين في الأحكام الظاهرية إنّما هو من جهة الاختلاف في موضوعاتها، فكلٌ يعمل بما هو وظيفته بالفعل، ولا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة فمن اعتقد أنّ أدلة البراءة الشرعية لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين، لاعتقاده تقديم الشارع جانب الحرمة على جانب الوجوب، لاتكون أدلة البراءة شاملة له، لعدم موضوعها وهو الشك في الحكم، فلو ارتكب الفعل ـ والحال هذه ـ يعاقب على مخالفته على تقدير ثبوت الحرمة في الواقع، ويكون متجرياً على تقدير عدمها. وأمّا من لا يعتقد به ولم يقم عنده دليل على تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب، فلا محالة يكون شاكاً في الحكم الواقعي، ومعه يرجع إلى البراءة بلا مانع.

 وبذلك يظهر الحال في المثال الثاني وبقية الموارد، فانّ من بنى على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي لم تكن أدلة البراءة معذّرةً له في العمل على خلاف يقينه السابق، لعدم تحقق موضوعها في حقه، وأمّا من ذهب إلى عدم حجيته في تلك الموارد فلا مانع له من الرجوع إلى البراءة، لأ نّه شاك في الحكم ولم تقم عنده حجة عليه على الفرض.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net