تعريف التقليد - أدلة جواز التقليد - ما استدل به على عدم جواز التقليد 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7598


ــ[536]ــ
 

الكلام في التقليد

 ويقع الكلام أوّلاً في معناه. وثانياً في أحكامه. أمّا الكلام في تعريفه فهو أ نّه عرّف بتعاريف، منها: أ نّه العمل بقول الغـير. ومنها: أ نّه الأخذ بفتوى الغير للعمل به. ومنها: أ نّه الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل، بل وإن لم يأخذ. وقد ذكر السيد(1) (قدس سره) في العروة أ نّه يكفي في تحقق التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها.

 ولكنّ التحقيق أنّ التقليد في العرف باق على معناه اللغوي، وهو جعل الغير ذا قلادة، ومنه التقليد في حج القران، فانّ المحرم يجعل البعير ذا قلادة بنعل قد صلى فيه، وفي حديث: «الخلافة قلّدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) »(2) أي جعل الخلافة قلادةً له (عليه السلام) فكأنّ العامي يجعل عمله قلادة للمجتهد كناية عن كونه هو المسؤول عنه، وهو المؤاخذ بعمله لو قصّر في فتواه، كما يفصح عن ذلك قولهم (عليهم السلام) في عدة روايات: «من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به»(3) وقوله (عليه السلام) في قضية ربيعة بعد افتائه، وقول السائل: أهو في عنقك؟ هو في عنقه قال أو لم يقل... إلخ(4).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 1: 18 المسألة 8.

(2) كما في مجمع البحرين في مادة (قلّد).

(3) الوسائل 27: 20 / أبواب صفات القاضي ب 4 ح 1 (باختلاف يسير).

(4) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبدالرحمن بن الحجاج، قال: كان أبو عبدالله (عليه السلام) قاعداً في حلقة ربيعة =

ــ[537]ــ

 وبالجملة: لمّا كان وزر عمل العامي على المفتي، صح إطلاق التقليد على العمل بفتواه باعتبار أ نّه قلادة له.

 فالصحيح في تعريفه أن يقال: هو العمل استناداً إلى فتوى الغير. وما في الكفاية(1) ـ من أ نّه لو كان عبارة عن نفس العمل بفتوى الغير، لزم أن يكون العمل الأوّل بلا تقليد، فانّه غير مسبوق بالعمل ـ لا وجه له، فانّه لا دليل على سبق التقليد على العمل، بل المعتبر أن لا يكون العمل بلا تقليد، وهذا المعنى موجود في العمل الأوّل أيضاً، فانّه عمل مستند إلى فتوى المجتهد.

 وأمّا مسألة جواز البقاء على تقليد الميت وحرمة العدول عن تقليد الحي إلى الآخر، فليست متفرعةً على أنّ معنى التقليد هو الالتزام بالعمل، بأن يقال كما قيل: لو التزم بالعمل ولم يعمل فمات المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده، وكذا لو التزم ولم يعمل يجوز العدول عنه إلى الآخر. وأمّا لو عمل يجوز البقاء في الأوّل ولا يجوز العدول في الثاني، هذا إذا كان التقليد عبارة عن العمل. وأمّا لو كان عبارة عن الالتزام فيجوز البقاء في الأوّل ولا يجوز العدول في الثاني بعد الالتزام ولو لم يعمل، وذلك لأنّ الحكم ـ في كل واحدة من المسألتين من حيث السعة والضيق ـ تابع للمدرك فيهما، بلا فرق بين أن يكون التقليد عبارة عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

= الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة، فأجابه، فلما سكت، قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): «هو في عنقه، قال أولم يقل، وكل مفت ضامن» [ الوسائل 27: 220 / أبواب آداب القاضي ب 7 ح 2 ].

(1) كفاية الاُصول: 472.

ــ[538]ــ

الالتزام أو العمل، وسنتعرض للمسألتين عن قريب(1) إن شاء الله تعالى.
 

الكلام في أحكام التقليد

 ويقع البحث عنها في مسائل:

 المسألة الاُولى: أ نّه لا ينبغي الريب في جواز التقليد للعامي في الأحكام الشرعية العملية، وتدل عليه السيرة العقلائية، فانّها قد جرت على رجوع الجاهل إلى العالم في اُمورهم الراجعة إلى معادهم ومعاشهم، بل هو أمر فطري يجده كل من راجع نفسه وارتكازه، وهذا كاف في إثبات الحكم بعد ما سنذكره من عدم ثبوت الردع عنه من قبل الشارع، بل المعلوم امضاؤه، للقطع بأ نّه لم تكن عادة السلف حتى في عصر المعصومين (عليهم السلام) إلاّ على رجوع من لم يكن عارفاً بالأحكام الشرعية إلى العالم بها، وقد قررهم الأئمة (عليهم السلام) على ذلك. وتدل على الامضاء ـ مضافاً إلى القطع به ـ الآيات والروايات.

 أمّا الآيات فمنها قوله تعالى: (فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(2) ومنها قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ...)(3) وتقييد جواز العمل بقول أهل الذكر المستفاد من آية السؤال بصورة حصول العلم بالواقع، يدفعه الاطلاق، وكذا الحال في آية النفر. وما ورد في بعض الروايات(4) ـ من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 464 وما بعدها.

(2) النحل 16: 43.

(3) التوبة 9: 122.

(4) الوسائل 27: 63 / أبواب صفات القاضي ب 7 ح 3 وغيره.

ــ[539]ــ

تفسير أهل الذكر بالأئمة (عليهم السلام) أو بعلماء اليهود كما في بعضها الآخر ـ لا يضر بالاستدلال بالآية الشريفة للمقام، لما ذكرناه في بحث حجية خبر الواحد(1) وفي مقدمات التفسير(2): من أنّ نزول الآية في مورد خاص لا يوجب اختصاصها به، بمعنى أ نّه لا يوجب انحصار المراد به، فانّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر(3)، ولا يختص بمورد دون مورد، كما دلت عليه الروايات الكثيرة، وفي بعضها «إنّ القرآن لو نزل في قوم فماتوا لمات القرآن»(4) وهذه الروايات مذكورة في كتاب مرآة الأنوار المعروف بمقدمة تفسير البرهان، فراجع.

 وأمّا الروايات فكثيرة:

 منها: قول الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فانّي اُحب أن أرى في شيعتي مثلك»(5) ومن الظاهر أنّ جواز الافتاء يلازم جواز العمل به عرفاً.

 ومنها: الروايات الناهية عن الافتاء بغير علم(6)، وهي كثيرة، فانّ المفهوم منها ولو بقرينة الحكمة جواز الافتاء عن علم، وقد ذكرنا الآن أنّ جواز الافتاء يلازم جواز العمل به عرفاً، ولا يقاس ذلك بالأمر باظهار الحق والنهي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 220.

(2) البيان في تفسير القرآن: 22.

(3) مرآة الأنوار: 5.

(4) مرآة الأنوار: 5.

(5) رجال النجاشي: 10 / الترجمة رقم 7.

(6) الوسائل 27: 20 / أبواب صفات القاضي ب 4.

ــ[540]ــ

عن كتمانه(1) كما لا يخفى.

 ومنها: قول الرضا (عليه السلام) ـ بعد ما سأله [علي بن ] المسيب الهمداني وقال: شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ ـ من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا (2).

 ومنها: قوله (عليه السلام) أيضاً: «نعم» في جواب عبدالعزيز المهتدي حيث سأله (عليه السلام) وقال: إنّ شـقتي بعيدة، فلست أصل إليك في كل وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين(3)؟ ونحوها غيرها مما يدل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم. نعم، منع الأئمة (عليهم السلام) عن الرجوع إلى من كان دأبه في استنباط الأحكام الشرعية استعمال الاستحسانات والأقيسة، وغيرهما من الظنون غير المعتبرة، كما ذكرناه سابقاً.

 وقد استدل على عدم جواز التقليد بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وبما دل على التوبيخ على التقليد كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)(4) ولكن قد ذكرنا في البحث عن حجية خبر الواحد(5) أنّ ما دل على النهي عن اتباع غير العلم من الآيات والروايات لا يشمل العمل بما ثبت كونه حجة وعلماً في نظر الشارع.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ اشارة إلى الاستدلال بآية الكتمان على حجية خبر الواحد وردّه، راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 218 ـ 221 ].

(2) الوسائل 27: 146 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 27.

(3) الوسائل 27: 148 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 35.

(4) المائدة 5: 104.

(5) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 177.

 
 

ــ[541]ــ

وأمّا مثل قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ...) فهو أجنبي عن المقام، فانّ الكلام في رجوع الجاهل إلى العالم لا إلى مثله كما هو المفروض في الآية بقرينة ذيلها وهو قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) مضافاً إلى أنّ بعض تلك الآيات واردة في الاُصول الاعتقادية التي لا بدّ فيها من تحصيل العلم واليقين، ولايقاس عليها الأحكام الشرعية العملية، لقلة الاُصول الاعتقادية وسهولة الوصول إليها بالعلم واليقين لظهور برهانها، بخلاف الأحكام الفرعية فانّها مع كثرتها يصعب الوصول إليها من مداركها المقررة في الشرع، ولذا يصرف قومٌ أعمارهم لتحصيل ملكة الاستنباط، ولا تتيسر إلاّ للأوحدي منهم حسب ما افتضته المصالح الإلهية.

 ثمّ إنّ المراد من جواز التقليد هو الجواز بالمعنى الأعم، ضرورة أ نّه إذا انحصر الطريق بالتقليد، كما إذا عجز العامي عن الاحتياط وجب التقليد في حقه تعييناً، وأمّا مع تمكنه من الاحتياط تخير بينهما كما لا يخفى.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net